رسالة صديق.. حقيبة صغيرة وذاكرة لا تُنسى
كان لديّ درجٌ خاصّ بي أحتفظ فيه بأشيائي منذ طفولتي، الأشياء التي تحمل قيمةً لي، مثل رسم رسمته أو بطاقة إهداء من شخصٍ عزيزٍ عليّ. كما كنت أهوى جمع العملات القديمة والاحتفاظ بها، مثل القرش المصري أو ٥ ملاليم مصرية، وهي عملات لم تعد متداولة، أو حتى عملاتٍ من زمن المملكة المصرية. هذه أشياء كنت أتمنى لو أخذتها معي، بالإضافة إلى طرحة أمي التي كانت ترتديها للصلاة… تلك الطرحة الوردية التي كنت أشعر باتصالٍ روحيّ بها، أحببتُ دائمًا أن أحتضنها، ألمسها، وأضعها على وجهي دون أن أفكر في سبب تعلّقي بها!
لكن عندما كان عليّ الهرب… الرحيل… جاء ذلك فجأة، كما يأتي الموت فجأة لشابٍّ بكامل صحته دون توقّع. في ليلةٍ باردةٍ طويلةٍ، تغيّر كلّ شيء، وكان عليّ أن أغادر فورًا من بورسعيد إلى القاهرة، ولم يكن هناك وقتٌ لأخذ أيّ شيء، ولا حتى الاقتراب من منزلنا، أو إلقاء نظرةٍ أخيرةٍ ولو من بعيد. خرجتُ ذلك اليوم من منزلنا وكأنه يومٌ عادي، على أمل العودة مساءً كأيّ يومٍ آخر، لكن القدر أراد غير ذلك… وحتى هذه اللحظة، لم أعد. لم يكن بالإمكان توديع أيّ شيء أو أيّ أحد، أو أخذ ما كنتُ أتمنى لو استطعت حمله معي.
وددتُ لو لم تكن حقيبتي صغيرة… لو اتسعت لأهلي معي… لو كانت تتسع لأصدقائي! ماذا لو كانت تسع منزلنا؟ مدينتي الحبيبة بورسعيد؟ هل يمكن أن تتسع لمصر كلها؟ للأسف، لم تتسع إلا لبعض الملابس والطعام، ولم أختر شيئًا منها بنفسي! أرسلتها لي أمي مع أحد الأصدقاء إلى القاهرة، ولم أفتحها إلا في أرض ما بعد المحيط، في هونغ كونغ!
كم كانت حقيبتي صغيرة، وكم كانت ذاكرتي حيّة، تقذفني اليوم بأدقّ التفاصيل والذكريات من طفولتي وشبابي هناك… الذي ودّعته فجأة، كمن يموت فجأة!
كنت أحتفظ ببعض قنابل الغاز المسيل للدموع، تلك التي استنشقتها أثناء المظاهرات ضد نظام مبارك في ثورة يناير. كان ذلك الدخان قد تغلغل في أعماق جسدي، حتى إنني لا زلت أشعر بطعمه اللاذع ورائحته الحارقة كلّما تذكّرتُ تلك الأيام القاسية، التي رغم صعوبتها، كانت بالنسبة لي حياةً ونضالًا وحرية. كانت تلك القنابل المسيلة للدموع شاهدةً على وطنٍ مسروق، سرقته طغمةٌ مستبدة، وأجبرت شعبه المقهور، الفقير، المريض، على الدمع والاختناق، حينما قالوا: "كفى!"
التقطتُ بعضًا من هذه القنابل معي إلى البيت، ووضعتها في درجي، احتفظتُ بها كذكرى… لكنني علمت لاحقًا أن أمي، عندما استشعرت الخطر، قد أخفتها ورمتها في القمامة، حتى لا يُتَّهم أحدٌ فينا بحيازتها لو داهم العسكر بيتنا. آلمني هذا الخبر، لأن هذه القنابل لم تكن مجرّد أشياء… كانت شاهدةً على الزمن، شاهدةً على مغامرتي، شاهدةً على الظلم والمستبدين، وشاهدةً على الثورة. لو كنتُ قد احتفظتُ بها، لكانت بعد عشرين عامًا الآن معروضةً في متحفٍ يحكي تاريخ مصر وثورتها… كنتُ أتمنى لو أخذتها معي، لكن حتى ذلك كان حلمًا بعيد المنال.
كم كانت حقيبتي صغيرة، وكم كانت ذاكرتي حيّة… اليوم، تطاردني ذكرياتي بأدقّ تفاصيلها، طفولتي، شبابي، وطني الذي تركته فجأة… كما لو أنه مات فجأة! كل ما تبقى الآن مجرد ذكريات… ذكرياتٌ أصبحتْ كالسراب.
تعليقات
إرسال تعليق