الدم لا حكمة فيه.. حين تتعدد وجوه القاتل باسم الله والمقاومة والسيادة


 كوني صحفيًا أعمل بشكل يومي أمام الشاشات التي لا تنام، وأشاهد لحظة بلحظة صور القصف، صراخ الأمهات، أنقاض البيوت، رؤوس الأطفال المقطوعة بلا مقدمات، أجد نفسي كل مساء أطرح السؤال ذاته كل يوم هل حقًا هناك حكمة عليا تتطلّب هذا القدر من الدم؟ هل مات هؤلاء لأن الله أراد لنا أن نفهم؟ هل الطفل الذي قُتل تحت الركام كان يجب أن يموت كي “نصبر”؟ هل على الجسد أن يتمزق كي تصحو الروح؟ أي منطق هذا؟ وأي إيمان يُطلب منك أن تصدق أن الله في صف الانفجار لا في صف الحياة؟


‏كل من يقول لي إن “هذا ابتلاء”، أو “الشهداء اختارهم الله”، أو “النصر قادم لأننا صبرنا على الدم”، لا يعرف الله ولا الضحية. 


‏من قال إن الله يحتاج إلى مجزرة كي يسمع صوته؟ من قال إن الجنة لا تكتمل إلا بجثث الأبرياء؟ من قال إن أمًّا تصرخ فوق طفلها وتقول “بلغت الجنة باكرًا”هي مشهد روحاني؟ هذه ليست عزاء، هذه خيانة مزدوجة: خيانة للضحية، وخيانة لله.


‏من داخل عملي الصحفي، وأنا  أحذف صورًا لا يمكن بثها، وأعيد صياغة العبارات حتى لا “تُجرح مشاعر المشاهد”، أدركت أن إعادة تدوير الخطاب الديني لتجميل القتل، أو السكوت عنه، ليست إيمانًا بل تواطؤ ليست صبرًا بل تغطية ليست حكمة بل تعمية.


‏وأسوأ من القاتل الظاهر، هو القاتل المقنع الذي يرتدي رداء الدين أو السيادة أو المسؤولية ليُبرر الدم القاتل ليس الاحتلال وحده، رغم أنه الأصل والسبب والمجرم الأكبر. 


‏القاتل كل من جعل من الموت مشروعًا سياسيًا، وكل من صمت عن القصف لأنه “من الداخل”، وكل من اختبأ خلف فقه الضرورات أو أحلام النصر المؤجل، ليطلب من الناس أن تُدفن بصبر، وتذبح بأمل.


‏نعم، إسرائيل تقتل بوضوح، لكنها ليست وحدها هناك من يقتل بالصمت ومن يقتل بالإهمال ومن يقتل بتضييق المعابر، وتعطيل الشاحنات، واحتكار الخبز، وسرقة الوقود ومن يقتل حين يحول البشر إلى رهائن تفاوض، ويحول الموت إلى ورقة مساومة.


‏في كل الأديان، موقف واضح لا لبس فيه الله مع المظلوم، لا مع صاحب القذيفة، يسوع طرد تجار الهيكل وموسى واجه فرعون ومحمد قال: إن دماءكم عليكم حرام. 


‏لم يقل أحد منهم: اصبروا على المجزرة، فالله يريد اختباركم، بل قالوا: قاوموا الظلم، لا تبرّروه، لا تُؤلّفوا له حكمة.


‏حتى عمر بن الخطاب حين حل الطاعون، قال: “نفر من قدر الله إلى قدر الله”، لأنه لم يكن يريد الموت الجماعي باسم القدر، كان يريد الحياة باسم المسؤولية.


‏أما ما يحدث اليوم، فهو أن الخطاب الديني والعقائدي يتم تطويعه لتجميل القتل، لا لمواجهته. 


‏يتم استخدامه كأداة ضبط، لا كمنصة تحرر، يتم تسويقه كعزاء، لا كغضب مشروع. 


‏يتحول الدين إلى خطاب يعيد إنتاج السلطة على الأرض، بدل أن يحرر الإنسان فيها.


‏المعركة في غزة ليست فقط بين مقاوم ومحتل بل بين من يريد الحياة، ومن يرى فيها وقودًا لمشروع. 


‏بين من يريد العدالة، ومن يرى الدم وسيلة. بين من يرى الناس، ومن يرى “الشعب” مجرد رقم في خطاب.


‏نحن لا نحتاج إلى دم كي نفهم، ولا إلى موت كي نقترب من الله من قال إن الله يحتاج إلى محرقة كي يُعبد؟ من قال إن الجنة تحتاج إلى جنازات لتُفتح؟ كل هذه أفكار تنتمي إلى لاهوت الخوف، لا لعدالة السماء إلى سلطات أرضية تحتمي باسم الإيمان، لا إلى صوت الضحايا.


‏العدالة لا تبدأ من السماء، بل من كلمة تقال على الأرض هذا قتل. هذا ظلم.


‏وكل من ادعى أن في هذا الدم حكمة عليا، خان الله قبل أن يخون الضحية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشتاء في إسطنبول… وحدةٌ وسُخرية تحت سماء كئيبة

السادية السياسية في عهد السيسي.. القمع باسم الله

فرنسيس.. البابا الذي خرج عن النص