حين تخنق القيم في الخندق: نقد سياسي لتجربة حماس في ضوء التاريخ والمأساة
“الحرية لا تساوي شيئا إذا لم تكن حرية الخطأ”
بهذه الجملة لخوسيه أورتيغا إي غاسيت، الفيلسوف الإسباني، يمكن أن نفتح جرحا لا يزال يتسع في قلب غزة. فحين تُختزل الحرية في وجه واحد، وتُقدَّم المقاومة كدين لا يُناقَش، وتُرفع راية الصمت فوق كل تساؤل، نكون قد انتقلنا من ساحة التحرر إلى ساحة الطغيان المقنّع بالشعارات.
حماس.. من المشروع إلى السلطة
دخلت حماس المشهد السياسي عبر بوابة المقاومة المسلحة، ففرضت نفسها بالقوة الميدانية والشعبية كممثل للفلسطينيين في غزة. بعد فوزها في انتخابات 2006، وانقلاب 2007 على السلطة الفلسطينية، أصبحت حماس الحاكم الفعلي للقطاع. ولعقود تالية، لم تفلح أي جهة محلية أو خارجية في كسر هذا الواقع، لا بالحرب، ولا بالحصار، ولا بالوساطة.
لكن المسألة لا تكمن في من يحكم غزة، بل كيف يحكمها؟ وكيف يمكن لحركة تحرر أن تنجو من مصيدة السلطة؟
في سجون التاريخ، كثير من الحركات الثورية سقطت في لحظة تسلمها مقاليد الحكم. الثورة الفرنسية أكلت أبناءها، والبلاشفة خنقوا حرية التعبير باسم البروليتاريا، والثورات العربية انقلبت على شعاراتها بعد لحظات من النشوة الأولى. كان التاريخ واضحا: المقاومة التي لا تقبل النقد، تتحول إلى استبداد.
أولتراس المقاومة.. حين يتحول الجمهور إلى جهاز قمع رمزي
لدى حماس اليوم “أولتراس” مناصرين، لا يختلفون في آلية التفكير عن مشجعي الفرق الكروية، يهتفون باسم الحركة في كل معركة، ويرددون الرواية الرسمية دون مساءلة. هذا الجمهور لا يكتفي بالتأييد، بل يقمع كل من يطرح تساؤلا، أو ينتقد أداء، أو يعبّر عن ألم. فالسؤال خيانة، والتشكيك زندقة، والدمار دائما مقدس، ما دام باسم “المقاومة”.
هذا الاصطفاف لا ينتج إلا صمتا عاما مريبا،صمت الأحياء الذين يخشون النبش في جراحهم، حتى لا يُتّهموا بخيانة الدم.
القاع لا ينجي أحدا
ثمة مقولة مكررة في الخطاب الشعبوي“، نحن الأغلبية، ونحن من يقرر الصواب.” لكنها مقولة مخادعة. القاع لا يمنح قداسة، ولا يعطي حكما أخلاقيا مطلقا. الشعوب صفقت للطغاة مرارا.
الأغلبية صوتت لبوليساريو في الجزائر، ولهتلر في ألمانيا، ولترامب في أمريكا، ولا يزال كثير من المصريين يتغنون بالسيسي رغم الدم. فهل العدد معيار للحق؟
الأخلاق لا تقاس بالموقع الطبقي أو بالتدين أو بالمقاومة، بل بالإنسانية: هل نحترم الحياة؟ هل نحمي الإنسان؟ هل نجرؤ على مراجعة أنفسنا؟
السلطة باسم المقاومة: الوجه الآخر للاستبداد
حماس، بوصفها حركة مقاومة، حملت السلاح ضد الاحتلال، وهذا حق لا يُناقش. لكنها، كسلطة سياسية، تحكم الناس، وتتحكم في أرزاقهم، وتضبط الفضاء العام، وتراقب الإعلام، وتقمع الاحتجاجات—وكل ذلك خارج أي رقابة أو مساءلة. باسم المقاومة تُبرر كل الأخطاء: من غياب الشفافية في إدارة المعابر والمساعدات، إلى تغييب الأصوات المعارضة، إلى استخدام العنف ضد الاحتجاجات المدنية.
في هذا المشهد، تتلاشى الحدود بين المقاومة والتحكم، بين التحرر والقمع، وتصبح المقاومة نفسها أداة لإدامة السلطة.
المأساة تتكرر، لكن من دون وعي
كل حرب جديدة في غزة تُقدَّم كأنها الجولة الأخيرة، وكأنها على أبواب النصر، ثم يتكرر المشهد: البيوت تُقصف، الشهداء يُشيّعون، الناس تُهجّر، والقيادة تخرج بخطاب النصر… من جديد. يتكرر الموت، ويتكرر الخطاب، ويتجدد الصمت الجماهيري القسري.
لكن أين النقاش الحقيقي؟ من يسأل عن النتائج؟ من يجرؤ على مناقشة جدوى هذا المسار؟ من يفتح ملف الانقسام السياسي، والشلل في المصالحة، وانغلاق الأفق أمام أجيال فلسطينية لا تعرف من الوطن إلا الخندق والمقبرة؟
الدين كغطاء، لا كقيمة
الأخطر في تجربة حماس ليس فقط أنها سلطة غير منتخبة منذ 2006، بل أنها تُلبس خطابها السياسي ثوبا دينيا، ما يحصنه ضد النقد، ويُحوّل الخلاف السياسي إلى خلاف عقدي. كل معارض متهم بـ”العلمنة”، وكل ناقد يُحاصر بفتاوى الولاء والبراء.
بهذا الشكل، يتحول الدين إلى أداة تخدير لا تحرير، يُستخدم لتكميم الأفواه لا لفتح العقول، ويُفرغ من قيمه الإنسانية الأساسية: الرحمة، العدل، الكرامة، التعدد.
ماذا يعني أن نكون مع غزة؟
الوقوف مع غزة لا يعني السكوت عن حماس. لا يعني تبرير كل ما يُفعل باسم “المقاومة”. لا يعني شيطنة الناقد ولا تخوين المفجوع. الوقوف مع غزة يعني الوقوف مع شعبها، ضد الاحتلال أولا، وضد كل سلطة تغلق عليه الحياة، سواء باسم الاحتلال أو باسم الله.
أن تكون مع غزة يعني أن تسمع صوت أم غاضبة، لا تجد حليبا لطفلتها، فتصرخ في وجه الجميع. أن تكون مع غزة يعني أن تصدق من قال لك إن المقاومة لا تعني أن تكون الجثة في الشارع ثلاثة أيام لأن “الظروف لا تسمح بدفنها”. أن تكون مع غزة يعني أن تتعامل مع الإنسان قبل الراية.
في الختام..المقاومة الأخلاقية أو لا شيء
المقاومة ليست فقط سلاحا، وليست فقط شعارا، وليست فقط خندقا. المقاومة إيمان عميق بأن الإنسان يستحق الحياة، حتى حين يخطئ، حتى حين يعارض، حتى حين يتكلم بمرارة. والمقاومة الحقيقية لا تخشى النقد، بل تنمو به.
إن غزة، بكل ما فيها من بطولة وجراح، تستحق أكثر من هذا الصمت الثقيل. تستحق مقاومة شفافة، تعددية، تحترم العقل والكرامة، وتفتح صدرها قبل أن تفتح خندقها.
فهل تملك حماس شجاعة المقاومة التي تسمح لها بمقاومة نفسها؟
تعليقات
إرسال تعليق