‏بوذا لا يذهب إلى الحرب.. وأنا لا أملك تصريحا للعودة إلى البيت




‏الحرب، ليست فقط تلك التي تطلق فيها الطائرات صواريخها،

‏أو تحرك فيها الجيوش أساطيلها، بل تلك التي تتسرب بهدوء...

‏إلى الخبز، إلى الحلم، إلى تفاصيل الحياة الصغيرة،

‏فتجعلها... كأنك تعيش في غرفة بلا نوافذ.

‏في  أي حرب، يفترض أن يُطرح السؤال: من الذي انتصر؟

‏لكننا هنا، في هذه البقعة من العالم ( الشرق الأوسط) ، لا نسأل هذا السؤال

‏لأننا نعلم أن المنتصر لا يرى، وأن الهزيمة تُوزع علينا نحن، بالتساوي.

‏إسرائيل وإيران تتبادلان القصف العناوين تلهث خلف كل صاروخ.

‏لكن أحدًا لا يسأل:

‏ماذا عن الذين لا يملكون حتى ثمن النزوح؟

‏ماذا عن الذين لا يفهمون في السياسة...إلا أنها تؤلمهم؟

‏في بلدي، لا تأتي الحرب بصوت الطائرات، بل بصوت الفواتير.

‏تراها في عيون الناس في السوق، حين ترتفع الأسعار بلا رحمة.

‏وتسمعها في جملة مكررة: "اصبر… الوطن في خطر."

‏لكنني لا أرى الخطر...إلا في أنني لا أجد دواءً لأبي،

‏ولا أمنًا لابني، ولا معنىً لليوم التالي.

‏أنا... في غربة قسرية.

‏لم أختر الرحيل، ولم يسمح لي بالعودة.

‏أسرتي هناك، خلف حدود لا تعترف بمحبة،

‏وأصدقائي... يتناقصون في الصور، كأن الزمن يمحوهم مني ببطء.

‏الغربة؟ ليست مفردة شعرية بل إيقاع يومي متكرر:

‏خوف، وحدة، انتظار، ثم نسيان.

‏الغربة، أن ترى وطنك ينزف، ولا تملك سوى الكتابة.

‏قال بوذا:

‏"لا يُطفأ الحقد بالحقد، بل بالرحمة. هذه هي القاعدة الأبدية." 

‏لكن في منطقتنا، الرحمة تُعد خيانة والسلام يُعد هزيمة.

‏والكلمة... تُراقب أكثر مما تُفهم٬ أنا لست حكيما، لكنني أعرف الألم

‏وأحترم أولئك الذين لم يتبقَّ لهم إلا صمتهم.

‏تقول لنا: العدو في الخارج.

‏لكننا نراه كل يوم في الداخل: في قسم الشرطة، في مكتب التموين،

‏في يد الموظف الذي يطلب رشوة كي "يسهّل لك الأمور".

‏أنا المواطن الذي لا يذكر في المعادلات، ولا يستشار في قرارات الحرب أو السلم،

‏لكنني أدفع ثمنها كلها: من جسدي، من نومي، من قلق أمي.

‏بوذا لا يذهب إلى الحرب.

‏لأنه يعلم أن الحرب لا تفتح أبواب السماء، بل تغلق أبواب البيوت.

‏في كل تصعيد جديد، أسأل نفسي: ماذا لو كان كل هذا لا ضرورة له؟

‏ماذا لو كان الأمن يأتي من العدل، لا من القنابل؟

‏ماذا لو أن الدولة القوية، هي التي تسمح لمواطنيها أن يختلفوا،

‏لا التي توزع الوطنية كبطاقة تموين؟

‏لقد مللنا من دعوات "الوعي".

‏فهو لا يطلب إلا من الفقراء، ولا يحاسب عليه إلا من لا سلطة له.

‏أما من يصنع الحرب…فله ألف عذر.

‏أحيانًا، أشعر أن المأساة ليست في الغربة، بل في الاعتياد عليها.

‏أن تصبح القطيعة مع الوطن، هي الأصل.

‏لكنني أكتب... 

‏لأن الكتابة تقول لي إنني ما زلت موجودًا٬ ولأن الغضب، إن لم يُكتب،

‏صار سما بطيئًا.

‏الحرب التي نعيشها ليست فقط بين إيران وإسرائيل،

‏بل تلك التي تدور في صدورنا، كل يوم: بين رغبة في الانتماء، وشعور عميق أننا بلا مكان.

‏أنا لا أملك تصريحًا للعودة إلى بيتي.

‏لكن بلدي...

‏ما زال يسكنني.

‏في لغتي،

‏في وجعي،

‏في حنيني،

‏وفي هذا ....

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشتاء في إسطنبول… وحدةٌ وسُخرية تحت سماء كئيبة

السادية السياسية في عهد السيسي.. القمع باسم الله

فرنسيس.. البابا الذي خرج عن النص